د. عبد الفتاح محمد صلاح اطلعت على مقالكم بيان حكم الاقتراض من صندوق النقد الدولي في ضوء الاقتصاد الإسلامي , والاستهلال يوضح أن الهدف من المقالة هو بيان حكم الاقتراض من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي , وأيضًا من وجهة نظر منبثقة من مصادر الشريعة الإسلامية بصفة عامة , ومن فقه المعاملات المالية والسياسة الشرعية لأولي الأمر لعلهم يرشدون .  

   ومن منطلق لعلهم يرشدون التي ننشدها جميعاً أجد أنه من الواجب تقديم بعض الملاحظات الجوهرية التي تتعلق بالبدائل المشروعة للاقتراض بفائدة والمطروحة في مقالكم باعتبارها من منظور الاقتصاد الإسلامي أوجزها في نقاط محددة على النحو التالي :

أولاً : جاء في مقالكم ” تطبيق نظام الضريبة التصاعدية على الأغنياء وإعفاء الفقراء من هم دون حد الكفاية من الضرائب الظالمة، وإعادة النظر في ضريبة المبيعات ” .

أ- فرض الضرائب النسبية أو التصاعدية ليس من المبادئ الاسلامية , ولا من وسائل الاقتصاد الإسلامي بل على العكس فالضرائب لم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة وإنما عرفت بعد ذلك , والذي ورد في الأحاديث النبوية هو “المكوس” كمرادف للضرائب ومعناها : الظلم والنقص , والضرائب الظالمة من وجهة نظركم للفقراء ظالمة للأغنياء أيضاً لأن الظلم لا يتجزأ , ولكن قد تكون أشد ظلماً للفقراء .

   لا شك أن فرض الضريبة على المال اعتداء على الملكية بدون دليل شرعي , وفرض ضرائب جديدة بجانب الزكاة ليس له سابقة عملية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم , ولا في عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .

   فالإسلام احترم الملكية الخاصة وصانها من الاعتداء ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ” وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ” البقرة 188. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ” رواه البخاري .

   كما أن المشهور عند الفقهاء أن لا حق في المال سوى الزكاة , وبالتالي فلا يجوز فرض ضريبة على المال , ويعدون الضرائب من المكوس المنهي عنها في الإسلام .

•الإمام الشوكاني في نيل الأوطار يقول : صاحب المكس هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس بغير حق .

•جاء في كتاب الكبائر للحافظ الإمام شمس الدين الذهبي : المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات , وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده ، وتكرر ذلك منه ، وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها ، وصرفها في غير وجهها .

•العلامة الألباني يقول : الضرائب هي مكوس وهي مما لايجوز في الإسلام .

•يقول الدكتور/ سفر الحوالي : المسلم لا يحل أن يؤخذ منه عشر ولا مكس ولا ضريبة , وإنما جعل الله تبارك وتعالى في ماله الزكاة وفيها الكفاية لإصلاح حال المسلمين .

   أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل المكس وهي الضريبة حيث قال : ” إن صاحب المكس في النار ” رواه أحمد , وقال أيضا : ” لايدخل الجنة صاحب مكس ” رواه أبو داود , وقال أيضا في توبة المرأة الغامدية الزانية : ” يا خالد بن الوليد ، فوالذي نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ” رواه مسلم , وهذه الأحاديث تدل على أن المكس وهو الضريبة المفروضة على الأموال إثم عظيم وعليه يجب عدم فرض شئ منها على المسلمين .

   هنا يجب ذكر حديث الأعرابي الذي سأل عن أركان الإسلام الخمسة ثم قال وهل علي غيرها ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ” لا إلا أن تطوع ثم قال أفلح إن صدق ” رواه البخاري ,  تأتي أهمية ذكر هذا الحديث بعد الأحاديث السابقة لأن فيه رد قاطع بأنه ليس في المال حق سوى الزكاة المفروضة إلا أن يكون ذلك على سبيل التطوع الذي لا إجبار فيه .

   إذا كان الأمر كذلك فهل يجوز للحاكم أو الدولة فرض الضريبة بجانب الزكاة , وخاصة عند الأزمات والشدائد ؟ 

   الأصل هو منع فرض الضرائب والاستثناء هو جوازها , ولابد أن يكون هذا الاستثناء في إطار الشروط والضوابط التي قررها الفقهاء كقواعد عامة للتوظيف في أموال الأغنياء :

- التوظيف ” فرض الضريبة ” مسئولية ولي الأمر , ومسئولية على ولي الأمر أمام الله .

2- ولي الأمر الذي يعطي الإسلام له حق التوظيف ” فرض الضريبة ” مفترض فيه أن يكون مقيداً بمراسم الإسلام , مؤيداً بموافقة مناظم الأحكام .

3- التوظيف ” فرض الضريبة ” هو آخر ما تلجأ إليه الدولة لسد حاجاتها المالية , ويعني هذا أن تكون الزكاة قد  أعملت على النحو الذي قال به الشارع .

4- التوظيف ” فرض الضريبة ” يكون عند خلو بيت المال , ولا يجوز التوظيف في غير هذه الحالة .

5- التوظيف ” فرض الضريبة ” يكون عند قيام حاجة حقيقية في المجتمع الإسلامي , ولتحقيق مصلحة يعتبرها الشارع وهي محددة في : قتال الإعداء ” الجهاد ” , والتضامن الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء , تحقيق مصلحة عامة ضرورية للمجتمع كالأمن والصحة وشبكات الري . 

6- لا بد من موافقة أهل الشورى والرأى من العلماء على التوظيف ” فرض الضريبة ” .

7- التوظيف يكون بقدر ما يسد الحاجة , وتحصل به الكفاية مهما استغرق ذلك من الأموال .

8- التوظيف مشروعيته تقع على الغلات والثمرات وضروب الزوائد والفوائد .

9- يجب توزيع أعباء التوظيف بالعدل , وأن يكون على قادرين على الدفع دون المحتاجين , ويراعى في ذلك من كثر ماله وقل عياله .

10- التوظيف عندما يصبح مشروعاً يجب استخدامه في الغرض الذي من أجله شرع .

11- التوظيف فرض مؤقت ومقيد بالحاجة فإذا انتفت أزيلت الضريبة .

12- الضريبة لا تغني عن الزكاة لاختلاف كل منهما في المصرف والنية . 

   يتبين من كل ما تقدم أن الأصل هو عدم جواز فرض ضرائب , ويستثنى من هذا الأصل حالات الضرورة والحاجة الملحة للدولة , وبشرط أساسي عدم كفاية حصيلة الزكاة المفروضة , إذ لا يستقيم للدولة المسلمة تعطيل الفريضة التي شرعها الله عز وجل لإغناء خزينة الدولة , ثم  تشرع ضريبة تجبر الناس عليها بدعوى الحاجة إلى المال وأنها تريد بذلك تحقيق المصلحة !! لأن المصلحة قد حققها الله بشرع تم الإعراض عنه . 

ب- من الناحية الاقتصادية البعض يتبنى فكرة الضرائب التصاعدية لزيادة موارد الدولة  وتحقيق العدالة الاجتماعية , وينسى أن الضرائب النسبية تعيق الاستثمار والنمو فما بالنا بالضرائب التصاعدية , والفكر الحديث في الضرائب يهدف إلى تبسيطها وتخفيضها على الدخل والأرباح  لتشجيع الإنتاج والاستثمار والتصدير .

   ويكفي أن نعلم أن موريس آليه الاقتصادي العالمي المشهور الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد يقول : يجب تعديل سعر الفائدة إلى حدود الصفر ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقرب من 2% لتنشيط الاقتصاد .

ثانياً : جاء في مقالكم ” تطبيق نظام الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور بما يحقق العدالة الاجتماعية، بمعنى أن يقل الحد الأدنى عن تكلفة الحاجات الأصلية للحياة الكريمة للإنسان، وتحول المغالاة في الحد الأقصى إلى الفقراء، وهذا سوف يساهم في علاج عجز الموازنة ” .

أ- لا أتصور شرعاً أو عقلاً أن تطبيق الحد الأدنى للأجور معناه أن يقل الحد الأدنى عن تكلفة الحاجات الأصلية للحياة الكريمة للإنسان كما هو وارد بالمقالة .

ب- لقد عجزت نظريات الحد الأدنى للأجور سواء كانت ليبرالية أو ماركسية أو غير ذلك من  أفكار اقتصادية تقع بينهما في تقديم أساس عادل لتحديد الأجور , والأمر اللافت للانتباه هو التقارب والتماهي بين النظريات الليبرالية والماركسية في ربط الأجور بالحد الأدنى الضروري اللازم لمعيشة العامل وأفراد أسرته ” حد الكفاف ” للمحافظة على حياته باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج وليس لقيمته كإنسان .

ج- الاقتصاد الإسلامي يعرف مفهوم الكفاية المستمد من نصوص القرآن والسنة , وتحقيق حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع من أهم ما جاء به الإسلام في المجال الاقتصادي , فبينما اهتمت الاقتصاديات الوضعية ” بحد الكفاف ” للقضاء على الفقر المطلق تحت تأثير المطالبة الجماعية للفقراء , اهتم الاقتصاد الإسلامي بمستوى أعلى من القضاء على الفقر يتمثل في ” حد الغنى ” الذي يوفر للفرد متطلباته بالقدر الذي يجعله في سعة من العيش وغنى عن غيره باعتبار ذلك حق إنساني ثابت لكل فرد في المجتمع لا يحتاج إلى إعلان الحاجة إليه أو المطالبة به .

   وحد الكفاية هو ذلك الحد الذي يكفي معيشة الفرد ومن يعول من الحاجات الأساسية والحاجية والتحسينية التي اعتاد أفراد المجتمع على الاحتياج إليها دون إسراف أو تقتير , مع مراعاة الظروف التي يعيشها المجتمع على المستوى العام سعة وضيقاً , يقول الماوردي في الأحكام السلطانية : ” تقدير العطاء مرتبط بالكفاية ” .

أسس تحديد الكفاية في الإسلام 

   حد الكفاية في الإسلام ليس مجرد كلام نظري ومعاني نبيله يستخدمها الدعاة في خطبهم , ولكنه حقيقة لها أسس واقعية واضحة في النظام الاقتصادي الإسلامي .

حد الكفاية في القرآن الكريم : يحدد الخالق سبحانه وتعالى كفاية آدم عليه السلام في الجنة في قولة تعالى : ” إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ” سورة طه 118, 119 . ففي الجنة يتوافر للإنسان كفايته من الأكل والشرب والملبس والمسكن , وهي حاجات أساسية لا تستقيم حياته بدونها . 

حد الكفاية في السنة النبوية : فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ً ” رواه البخاري , وهذا الحديث يضيف لمقومات الحياة الأساسية توفر الأمن ووسائل العلاج .

   ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على هذا الحد فقد روي عنه أنه قال : ” من ولي لنا عملا فلم يكن له زوجة فليتزوج أو خادما فليتخذ خادما أو مسكنا فليتخذ مسكنا أو دابة فليتخذ دابة فمن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال أو سارق ” رواه أحمد , وهذا يكشف عن نظرة الإسلام تجاه حد الكفاية للعاملين في أجهزة الدولة ويقرر الحدود الأساسية التي تكفل لكل إنسان حياة كريمة من مسكن وزوجة ووسيلة انتقال وخادم .

نموذج لعقد عمل بالأجر العادل ” أجر الكفاية “ 

   ورد هذا النموذج في القرآن الكريم في قوله تعالى : ” قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ”  سورة القصص الآية 27 . 

   هذا نموذج تطبيقي لعقد العمل المبرم بين سيدنا موسى عليه السلام الشاب القوي الذي لا يملك المال ولا العمل ولا السكن ولا الزوجة  ولا يتمتع حتى بالأمن , وسيدنا شعيب عليه السلام والذي بمقتضاه قبل سيدنا موسى العمل في رعي الأغنام لمدة ثماني سنوات مقابل توفير الطعام والشراب والملبس والمسكن والزوجة وهذا كله دونما طلب من سيدنا موسى . فهل عجزت الدولة بكل إمكانياتها أن تقوم بهذا الدور مع الشباب رغم رغبته وقدرته على العمل ؟ .

ثالثاً : جاء بمقالكم ” فرض ضريبة على المعاملات قصيرة الأجل الوهمية والصورية في البورصة والتي لا تحقق تنمية اقتصادية ولكن مضاربات ومقامرات تدخل في نطاق الميسر ومنها المعاملات أول اليوم والتخلص منها في آخر اليوم والمشتقات والمستقبليات.

إن فرض ضريبة على مثل هذه المعاملات سوف يصلح حال البورصة من ناحية ويزيد من موارد الدولة من ناحية أخرى ” .

 

أ- لا خلاف على أن معاملات البورصة الصورية والوهمية الآجلة وقصيرة الأجل للاستفادة من تذبذبات الأسعار , وكذلك التعامل بالمشتقات والمستقبليات من القمار المقنن , وعليه لا يجوز شرعاً عند وصف معاملات البورصة غير الشرعية الجمع في وصفها بين المضاربة والقمار , لأن القمار محرم شرعاً والمضاربة عقد من عقود المعاملات الشرعية يقوم في جوهره على التأليف بين المال وبين العمل في تكامل اقتصادي يحقق مصلحة الملاك والعمال على حد سواء .

ب- الأصل الامتناع عن جميع المعاملات المحرمة من ربا وقمار ومحاربتها, والضرورات المعتبرة شرعاً عند العلماء تجيز المحظورات ولكن بقدرها , ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن يكون فرض عقاب مالي في صورة ضرائب على تعاملات البورصة القمارية يصلح من أحوالها ويزيد من موارد الدولة , لأن الأصل هو منع المحرمات وليس إصلاحها , وإصلاح المحرمات بفرض الضرائب عليها يفتح الباب على مصراعية لفرض ضرائب على المحرمات الأخرى مثل المخدرات والخمور والدعارة لإصلاحها وهو ما لم يقل به أحد من العلماء , ولا يجوز زيادة موارد الدولة بفرض ضرائب على المحرمات لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .

   أختم بالتذكير بقوله تعالى : ” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ” هود 88 , وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .

Created By M2000 Studio

Valid XHTML 1.0 Transitional