معظم البنوك التقليدية والإسلامية لديها هذه الفترة حملة دعائية مكثفة للتمويل الشخصي أو القرض الشخصي لتحقيق الرغبات والأحلام الشخصية مثل: الزواج أو شراء منزل أو سيارة أو السفر للسياحة أو حتى سداد المديونيات القائمة لدى الجهات الأخرى ... وغيرها من الرغبات الشخصية التي تختلف وتتعدد باختلاف الأشخاص، والمطلوب من العميل صورة من الرقم القومي أو جواز السفرأو الهوية أو الإقامة، والموافقة تتم بشكل فوري، والحصول على التمويل يكون خلال ساعات، وبأسعار[1] أكثر تفضيلًا، وغير ذلك من المزايا والمنافع التي يُعلن عنها كل بنك لينافس بها غيره من البنوك.

ولأهمية هذا الموضوع سأعرض في السطور التالية مصطلح التمويل ومعناه، ثم توصيف التمويل في الاقتصاد الإسلامي، ونناقش بيع التورق الذي تستند عليه البنوك وتستخدمه في تنفيذ منتجها[2] للتمويل الشخصي، والموقف الفقهي من هذا الاستخدام، حتى تتجلى حقيقة التمويل الشخصي الذي تقدمه البنوك سواء أكانت تقليدية أو إسلامية، ليتمكن كل شخص من اتخاذ قراره عن قناعة لا يخالطها شك بشأن قبول أو رفض التمويل الشخصي في ضوء معلومات صحيحة والأهم من ذلك أنها موثقة شرعًا.

مصطلح التمويل ومعناه

مصطلح التمويل: مشتق من كلمة مال، والمال يمثل كل ما كانت له قيمة مادية و جاز تملكه والانتفاع به لكافة الناس كالذهب والفضة والنقود والأراضي والعقارات والأطيان، وبالعموم كل ما يقتنى ويملك ويُنتفع به ويُتصرف فيه من الأعيان، والمال الذي يختص به موضوعنا هو النقود.

لماذا سمي المال مالًا؟ قال سفيان الثوري: إنما سمي المال مالًا لأنه يميل القلوب، وجاء في الأثر أن المال سمي مالًا لأنه يميل بالعبد عن طاعة ربه فلا يتحرى الحلال في كسب المال، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام". رواه البخاري.

معنى التمويل: هو تحديد احتياجات الأفراد والمنظمات والشركات من الموارد النقدية وتحديد سبل جمعها واستخدامها[3] . وبمعنى بسيط هو قيام البنك بتزويد العميل بالمال (النقود) ليستخدمها نظير مقابل.

توصيف التمويل في الاقتصاد الإسلامي

فيما تقدم تم تناول مصطلح التمويل ومعناه العام، ونستعرض الآن التمويل في الاقتصاد الإسلامي، فنعرف الاقتصاد الإسلامي بأنه: مجموعة الأحكام والقواعد الشرعية المستنبطة من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، والتي تنظم أوجه كسب المال وإنفاقه وطرق تنميته "عمارة الأرض".

والاقتصاد الإسلامي يقوم على فلسفة متفردة تتمثل في الأصل العقيدي الإيماني "الاستخلاف"، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة: 30، وأن المالك الحقيقي للمال "مالك الرقبة" هو الله عز وجل قال تعالى: "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" المائدة: 120، والناس المستخلفون في هذه الأموال لهم فيها "ملكية المنفعة" التي تبيح لهم الإنفاق والاستثمار والاستمتاع بما يحقق استفادة الفرد والمجتمع على أن يكون الإنفاق وفقًا لمراد وتوجيهات المالك الحقيقي، قال تعالى: "آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ" الحديد: 7.

بناء على ذلك يكون توصيف التمويل في الاقتصاد الإسلامي بأنه يمثل للبنك إنفاق للنقود بغرض الحصول على عائد يزيد به من أرباحه، ويمثل بالنسبة للعميل اكتساب للنقود لاستخدامها في التجارة أو الاستثمار بمجالاته المتنوعة ليزيد من دخله، ويحصل البنك الممول على مقابل مخاطرته بالمال في التجارة أو الاستثمار على حصة من الأرباح الناتجة عن النشاط الاقتصادي.

فالمال في الفقه والاقتصاد الإسلامي ليس له إلا أن يشارك في النشاط الاقتصادي، ومن ثم يشترك في نتيجتة النهائية من ربح أو خسارة، وذلك هو الطريق الشرعي الوحيد لنماء المال وزيادته لأن النقود لا تلد نقودًا، أما أن يقدم المال كقروض ويحصل على معدل فائدة ثابت ومضمون مقابل الوقت بصرف النظر عن نتيجة النشاط الذي استخدم فيه فهذا هو الربا المحرم.

استخدام التورق في التمويل المصرفي

نظرًا لأن نشاط البنوك الأساسي هو التجارة بالديون، فالبنك يقترض بفائدة ويقرض بفائدة أكبر منها، والفرق بين الفائدتين يمثل دخل البنك[4] . والقواعد المحاسبية المتبعة في إعداد ميزانيات البنوك تظهر أرصدة المودعين فى جانب الالتزامات (الخصوم) باعتبارها من المديونيات (القروض) التى على البنك، ويظهر الائتمان الذي يمنحه البنك للعملاء من أفراد ورجال أعمال وشركات وغيرهم في جانب (الأصول بند المدينين) باعتبار الائتمان وفوائده (قروض) على العملاء. فإذا أضفنا إلى ذلك أن البنوك التجارية والمتخصصة محظور عليها بمقتضى القانون استثمار ودائع العملاء بنفسها مباشرةً، ويُسمح لها فقط بإقراضها للغير بفائدة. وهذا ما نصت عليه المادة 39 فقرة (أ) من القانون المصري رقم 163 لسنة 1957 والقوانين المعدلة له من أنه: " يحظر على البنك التجاري التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة فيما عدا: العقار المخصص لإدارة أعمال البنك أو للترفية عن موظفيه، وكذلك المنقول أو العقار الذي تئول ملكيته إلى البنك وفاء لدين له قبل الغير قبل أن يقوم البنك بتصفيته خلال سنة من تاريخ أيلولة الملكية بالنسبة للمنقول وحتى سنوات بالنسبة للعقار، ويجوز للبنك المركزي مد هذه المدة عند الاقتضاء.

ولما كانت القواعد المحاسبية المتبعة في إعداد ميزانيات البنوك والقوانين المنظمة لعملها تحظر عليها الاستثمار المباشر لأموال المودعين وتسمح لها فقط بإقراضها للغير بفائدة؛ وكان الفقة والاقتصاد الإسلامي يمنعا أن يقدم المال كقروض بفائدة ثابتة ومضمونة مقابل الوقت بصرف النظر عن نتيجة النشاط الذي استخدمت فيه الأموال المقترضة لأن هذا من الربا المحرم، من هنا كان يتحتم على البنوك إيجاد وسيلة أو حيلة للتغلب على هذا التعارض والتصادم حتى تتمكن البنوك من القيام بعملها الأساسي وهو الإقراض بفائدة، فتم اللجوء إلى استخدام بيع التورق باعتباره معاملة معروفة عند أهل العلم لإظهار التمويل أو القرض بفائدة الذي يعطيه البنك للعميل على أنه أحد صور البيع، وبمعنى أدق تغيير شكل القرض واسمه لإضفاء المشروعية عليه مع الإبقاء على مضمونه.

وحتى تكتمل الصورة فإنه يتوجب مناقشة التورق الفردي الذي اختلف فيه أهل العلم في القديم والحديث، ومناقشة التورق المنظم الذي يمثل ممارسة أو تطبيق أو ترتيب حديث تقوم به البنوك ولم يمر على تطبيقه فترة طويلة من الزمن، وكذلك عرض للموقف الفقهي من التورق الفردي والتورق المنظم، ولكن في البداية سنتطرق لبيان مصدر اسم التورق.

التورق في اللغة: مأخوذ من الوَرِقْ - بكسر الراء - وهو الفضة المضروبة نقود وقيل الفضة عمومًا. وقد ورد ذكر الوَرِق في قصة أصحاب الكهف قال تعالى: "فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ" الكهف 19. وعلى ذلك يكون التورق هو طلب النقود الفضية وتحول المعنى إلى طلب النقد عمومًا.

التورق الفردي: هو أن يشتري الرجل السلعة نسيئة (بالأجل) ويبيعها نقدًا لغير بائعها[5] ، بأقل مما اشتراها به ليحصل على النقد[6] . فالغرض الأساسي من التورق هو الحصول على النقد وليس استخدام السلعة أو المتاجرة والربح.

الموقف الفقهي من التورق الفردي: اختلف الفقهاء قديمًا وحديثًا حول حكم التورق الفردي فأجازها البعض ومنعها البعض الآخر والمانعين بين التحريم والكراهة، ففي القديم أجازه من فقهاء الحنفية أبو يوسف، والمالكية نهوا عنه لأن التورق عندهم حكم الزيادة في الثمن لأجل الأجل، وسُؤِلَ الإمام مالك عن الرجل يبيع السلعة بمئة دينار إلى أجل، فإذا وجب البيع بينهما، قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد، فإني لا أبصر البيع؟ قال: لا خير فيه ونهى عنه"، أما أصول المذهب الشافعي فلا ترى في التورق بأسًا، والحنابلة لهم أكثر من رأي في بيع التورق فقد روي عنهم الجواز، والكراهة والتحريم، فمعظم فقهاء الحنابلة على الجواز ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم حرما التورق، وحرمه وكرهه الإمام أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين. وقد اختلف العلماء المتأخرون والمعاصرون في حكم بيع التورق، فقد حرمها الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، والشيخ صالح الحصين، والدكنور حسين حامد حسان، والدكتور سامي السويلم، وأجازها الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي[7] .

ضوابط التورق الفردي: المجيزين للتورق الفردي سواء أكانوا أفرادًا أم هيئات وضعوا مجموعة من الضوابط يجب الالتزام بها عند تنفيذ التورق الفردي ليكون صحيحًا، وهذه الضوابط هي:

  1. وجود السلعة المباعة للعميل المتورق في ملك البائع وحيازته.
  2. أن تكون السلعة المباعة من غير الذهب والفضة أو العملات الورقية المعاصرة.
  3. أن تكون السلعة المباعة معينة تعيينًا يميزها عن موجودات البائع الأخرى.
  4. أن يكون شراء المتورق للسلعة حقيقيًا وليس صوريًا، ويفضل أن تتم العملية بالسلع المحلية.
  5. أن يتم استلام السلعة وحيازتها حقيقة من قبل المتورق.
  6. ألا يبيع المتورق السلعة محل التورق للبائع الذي اشتراها منه بالأجل بأقل مما اشتراها به لا مباشرة ولا بالواسطة، وإنما يبيعها لبائع آخر لتجنب بيع العِينَة المحرم شرعًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتم الجهادَ سلط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينِكم" رواه أبو داود.
  7. ألا يكون هناك ربط بين عقد شراء السلعة بالأجل، وعقد بيعها بثمن حال، سواء أكان هذا الربط بالنص في المستندات أم بالعرف أم بتعميم الإجراءات.

وفي الحقيقة أن مثل هذه الضوابط دليل على أن هذه المعاملة في أصلها تشوبها الشوائب والريب وما وضعت هذه الضوابط إلا لإزالتها[8].

التورق المصرفي أو المنظم: لا يوجد تعريف لهذه المعاملة عند الفقهاء القدامى لأنها شكل جديد من الممارسة، لذا يمكن تعريف التورق المنظم وبمعنى أدق وصف كيفية ممارسته بأنه: " تولي المصرف (البائع) تنظيم الحصول على النقد للعميل (المتورق) بحيث يبيع المصرف للعميل سلعة بثمن آجل، ثم يوكل العميل المصرف ببيع السلعة نقدًا لطرف آخر - بالطبع سيكون ثمن بيع السلعة لطرف آخر أقل من ثمن شراءها من المصرف - ويسلم المصرف الثمن النقدي المتحصل من البيع للعميل (المتورق).

وكل بنك يطلق على هذه المعاملة أسم جذاب يحمل معاني براقة مثل: التورق المبارك، وتيسير الأهلي، وتورق الخير، ونماء، ونقاء ... وستظهر مسميات أخرى ولكن مضمون المعاملة واحد لا يتغير، والملاحظ أن المنشورات التعريفية للتورق المصرفي والتي تصدرها مختلف البنوك تحتوي على بيانات عامة مثل: نوفر لك تمويلًا شخصيًا متوافقًا مع أحكام الشريعة لتحقق رغباتك وأحلامك بمزايا جذابة، وجدول يتضمن بيانات مالية متعلقة بفئات الدخل والأسعار التفضيلية للعائد عليها، ولكنها خلت من أي تعريفات أو تفصيلات عن العقود المبرمة، وعددها، وطبيعة العلاقة بين أطرافها، واكتفت بعبارة مكتوبة ببنط صغير في آخر المنشور التعريفي * تنطبق الشروط والأحكام. أما العرض المقدم للعميل فمختصر للغاية ويقتصر على بيان يشمل: المبلغ، القسط، النسبة، الأرباح، المدة بالأشهر.

الموقف الفقهي من التورق المصرفي أو المنظم

نظرًا لأن التورق المصرفي يُعد من الممارسات الحديثة فلا يوجد أقوال للفقهاء القدامى فيه، والآراء الفقهية بشأنه كلها لعلماء معاصرين وغالبيتهم على تحريم التورق المنظم وبه أخذت المجامع الفقهية، وتجدر الإشارة إلى وجود خلاف بين المجامع الفقهية من جهة، وهيئات الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية والمجالس الشرعية المتخصصة في المعاملات المالية المصرفية من جهة أخرى.

فقرار المجمع الفقهي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي تُحرمان التورق المصرفي (المنظم)، وتعتبران التورق المصرفي بيع صوري وتحايل على الربا. والسبب في ذلك أن السلعة المباعة للعميل المتورق ليست مُعَينة ولا مملوكة للبنك، ويتم بيعها مرة أخرى على البائع الأول وهذا هو ربا العينة. وهيئات الرقابة الشرعية لبعض البنوك تجيز التورق المنظم بضوابط وشروط يجب تحققها في كل عقد لضمان تعيين السلعة وتحقق ملك البنك لها مع القدره على قبضها والتصرف فيها قبل البيع للعميل المتورق، على أن يتولى العميل بيع السلعة على المصرف بنفسه حتى لا يتولى البنك طرفي العقد، وألا يبيع العميل المتورق السلعة للبائع الأول ابتعادًا عن ربا العينة[9] .

ترجيح الرأي في التورق المصرفي: لترجيح الرأي فإنه يتعين تدقيق إجراءات التطبيق العملي للتورق المصرفي من جهة ما يقوم به البنك، ومن جهة ما يقوم به العميل المتورق ليحصل على النقود. هنا نجد أن الواقع التطبيقي في البنوك يخالف ما أفتت به هيئات رقابتها الشرعية، فإذا كان من المفترض أن النقد الذي يحصل عليه العميل هو ثمن السلعة التي بيعت له من البنك بالأجل وأن العميل استلمها وحازها ثم قام ببيعها واستلم الثمن من المشتري فإن هذا الأمر يكذبه الواقع، فلا يخفى على أي أحد أن البنوك لا تملك سلعًا وليس لديها مخازن، أو عدد كافي من الموظفين المؤهلين ليقوموا بفحص واستلام السلع وتسليمها للعملاء، وخاصة أن عدد العقود التي تتم يوميًا يتجاوز المئات وربما الآلاف، كما أن السرعة التي تتم بها إيداع الأموال في حساب العملاء المتورقين تؤكد عدم ارتباط مبلغ التمويل بالسلعة وثمنها، كما أن العميل لا حاجة له بالسلعة ولا يرغب في التورط باستلامها والبنك يعلم هذا وكل ترتيباته قائمة على هذا الأساس، ودور العميل في العقد محصور في التوقيع على أوراق يقر فيها أنه قد تملك السلعة، ووكل البنك في بيعها لصالحه، وإيداع ثمنها في حسابه.

أظهر تدقيق الإجراءات المتبعة في البنوك عند تنفيذ عقد التورق المنظم أنها سبيل إلى القرض بفائدة المحرم، وأن السلعة المذكورة في العقد مجرد حيلة لإضفاء الشرعية عليه، وأن تطبيق التمويل المصرفي بهذا الشكل ينطبق عليه قول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في العِينة المحرمة: "هي دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة"، وكذلك التورق المنظم نقود بنقود دخلت بينهما سلعة، وعليه يكون الرأي الفقهي القائل بعدم جوازالتورق المصرفي المنظم هو الصواب.

الأضرار الاقتصادية للتورق المصرفي أو المنظم

بعد أن تبين من تدقيق الإجراءات المتبعة في عملية التورق المصرفي بما لا يدع مجال للشك أن الرأي الفقهي القائل بعدم جواز التورق المصرفي المنظم هو الصواب، أتوجه للذين ما زالوا على رأيهم في جواز التورق المصرفي إذا تم الالتزام بدقة بكل الضوابط التي وضعوها له حال التطبيق، فأقدم لهؤلاء أضرار التورق المصرفي على البنوك الإسلامية ذاتها، وعلى الاقتصاد الإسلامي بصفة عامة، وهذه الأضرار كافية لمنع التعامل به حتى لو كان رأيهم هو الصواب.

أضرار التورق المصرفي على البنوك الإسلامية: إن الاستخدام المتسارع وبأحجام كبيرة من الأموال في عقد التورق المصرفي الذي تروج له البنوك من المتوقع أن يشكل 90% من مجمل عمليات البنوك الإسلامية خلال سنوات قليلة، وبهذا فإن عقد التورق المصرفي يمثل إزاحة لعقود عمليات التمويل الأخرى مثل: المشاركة، والمضاربة، والاستصناع، والمزارعة، والإجارة ... وغيرها من العقود التنموية الحقيقية، وفي ذلك إهدار للجهود المبذولة من البنوك الإسلامية على مدار سنوات لزيادة أحجام الاستثمار والتنمية بالصيغ الشرعية، فالتورق المصرفي ينافي مبررات وجود البنوك الإسلامية التي ما قامت إلا لتجميع مدخرات المسلمين وتوجيهها إلى الاستثمار المباشر الزراعي والحيواني والصناعي والتجاري والتعديني ... وغيرها من مجالات الإنتاج والتنمية، بالإضافة إلى قيامها بأعمال البنوك الاعتيادية كفتح الحسابات الجارية، والاعتمادات، والحوالات، وقبول الودائع واستثمارها، مع الالتزام في الممارسة والتطبيق بالعقود الشرعية للمعاملات المالية، ومن ضمن مبررات وجود البنوك الإسلامية المساهمة في تحقيق الوظيفة الاجتماعية للمال بتخصيص جزء من أرباح البنك لتقديم القروض الحسنة - التي يُرد فيها أصل القرض دون زيادة - للعملاء الذين يحتاجون إلى الاقتراض لضرورة، وكذلك يمكنها استخدام أموال الزكاة المقدرة على إيداعات العملاء وأرباحها في إعانة الفقراء والمساكين وسداد ديون الغارمين، وليس من بين أهداف البنوك الإسلامية منافسة البنوك الربوية في تقديم الائتمان والقروض بفائدة.

أضرار التورق المصرفي على الاقتصاد الإسلامي: الاقتصاد الإسلامي هدفه عمارة الأرض قال تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" هود: 61، وعمارة الأرض تكون بتضافر عناصر النشاط الاقتصادي وهي: العمل ( المجهود البشري )، والأرض ( الموارد الطبيعية )، والأموال ومنها النقود، ورغم أن النقود الورقية المعاصرة ليس لها قيمة ذاتية في نفسها كنقود الذهب والفضة في الماضي؛ إلا أن هذا لا يفقدها أهميتها الكبيرة في الحياة الاقتصادية المستمدة من كونها الوسيط والأداة الوحيدة المقبولة في جميع المبادلات الاقتصادية، وفلسفة التمويل في الاقتصاد الإسلامي تقوم على أن النقود تابع وخادم للنشاط الاقتصادي المنتج، وتحصل على الربح وتتحمل في الخسارة وفقًا لنتيجة المشروع الذي شاركت فيه، فإذا انقلب الوضع وتحول التابع إلى متبوع، والخادم إلى مخدوم، وأصبحت النقود تحصل على فائدة ثابتة من النشاط الاقتصادي المنتج لمجرد وضعها في البنوك، وهذا يعني أن النشاط الاقتصادي المنتج أصبح خادمًا للنقود، وأن التمويل تحول إلى أداة لتدمير الاقتصاد، وخاصةً إذا علمنا أن غالبية التمويل المصرفي المنظم قروض استهلاكية لا تدعوا إليها حاجة.

ثم لمصلحة من تحويل أفراد المجتمع إلى مدينين، والعلماء والحكماء قديمًا وحديثًا يحذرون من الدَين لغير ضرورة بقولهم: إياكم والدين فإنه هَمٌ بالليل ومَذلةٌ بالنهار فالدَين يزعج القلوب، ويشتت الأفكار، ويمنع الإنسان من الخشوع في عبادته، والطمأنينة في جسده، والراحة بين أهله وولده[10] ، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الدين فقال: "وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ" رواه أبو داود.





المراجع
  1. يقصد بالأسعار الأكثر تفضيلًا على التمويل المقدم للعميل سعر الفائدة أو نسبة العائد أو معدل الربح ويختلف المسمى من بنك لآخر.
  2. رأي الكاتب أن تحويل العقود الشرعية للمعاملات إلى منتجات مالية إسلامية تباع وتشترى خطأ وخطر؛ لأنه يجعل الناس يتصورون أنه يحق لهم التعديل في أركانها وشروطها وضوابطها على اعتبار أن المنتجات بطبيعتها قابلة للتطوير والتعديل والإلغاء من خط الإنتاج، وهي أمور لا تجوز بأي حال من الأحوال مع الأحكام الشرعية التي تحكم وتنظـم حيـاة البشر بما في ذلك تعـاملاتهم الماليـة مصداقًا لقول ربنـا: " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " المائدة: 48.
  3. ويكيبيديا
  4. د. على أحمد السالوس: حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي والمجامع الثلاثة، مكتبة دار القرآن، مصر.
  5. ذكر بيعها نقدًا لغير بائعها من الأهمية حتى لا يتحول التورق إلى"بيع العينة" المحرم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أحمد وأبو داود.
  6. من كلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وباحثون آخرون.
  7. هذا الإيجاز للموقف الفقهي، استخلصه الكاتب بتصرف من كتاب التورق المصرفي د. رياض بن راشد آل رشود: ص 93- 103. - د. هناء محمد الحنيطي: التورق حقيقته أنواعه (الفقهي المعروف والمصرقي المنظم)، ملخص دراسة دكتوراه قدمت في صورة بحث لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دوراه التاسعة عشرة بإمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، ص12، 13 بتصرف.
  8. د. أحمد محمد لطفي: التورق الفردي في منظور الفقه الإسلامي، أستاذ الفقه المقارن المشارك بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، بحث منشور بالموسوعة الفقهية الكويتية، ص58، 59 بتصرف.
  9. هذا الإيجاز للموقف الفقهي، استخلصه الكاتب بتصرف من بحث د. حسين بن حسن بن أحمد الفيفي: حكم التورق المنظم الذي تجريه بعض المصارف، موقع صيد الفوائد للبحوث العلمية.
  10. الشيخ محمد بن مختار الشنقيطي: خُطبة منشورة بملتقى الخطباء.
Created By M2000 Studio

Valid XHTML 1.0 Transitional