ليس من قبيل المبالغة القول بأن معظم دول العالم تعاني من أزمات اقتصادية تفوق الأزمة الاقتصادية المصرية بمراحل، فالولايات المتحدة الأمريكية أقوى وأغنى دولة في العالم تعاني من أزمة اقتصادية حقيقية نتيجة تجاوز ديونها 16 تريليون دولار، هذا الحجم الهائل من الديون جعلها أكبر دولة مدينة في العالم وأوصلها إلى حافة الهاوية المالية التي تم الإعلان عن تداركها في الوقت الضائع بالاتفاق بين الرئيس الجمهوري باراك أوباما وبين رئيس الكونجرس الديمقراطي جون بينر لتفادي الخطر المحدق بالاقتصاد الأمريكي.

حقيقة الأمر أنه تم تأجيل الخطر لمدة شهرين لحين التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الاختيار بين خطة تقشف مؤلمة تُعرض الاقتصاد الأمريكي للانكماش والركود وبالتالي انخفاض في مستوى الخدمات الاجتماعية المقدمة لمتوسطي الدخول، وبين السماح للحكومة بمزيد من الاقتراض وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر سقوط الاقتصاد الأميركي العملاق فيما سقط فيه الاقتصاد اليوناني والاقتصادات الأوروبية المهددة بإعلان الإفلاس كالاقتصاد الأسباني والبرتغالي بالإضافة إلى الاقتصاد الإيطالي.

ثورة الجياع

هذه المقدمة فيها الرد على الذين يفزعون المصريين من قرب قيام ثورة جياع في مصر لمجرد وجود أزمة اقتصادية تعاني أكبر دول العالم من مثلها بل وأسوأ منها، ولم نسمع أن أحداً في تلك الدول حذر من حدوث ثورات جياع فيها، فما بال الاقتصاديين والنخبة والمثقفين من المعارضين في مصر مستمرين في مسلسل تخويف المصريين بداية من استخدام المصطلح الشهير بتوقف عجلة الإنتاج، مروراً بانخفاض الاحتياطي الدولاري وانهيار الاقتصاد، وتصعيداً بفزاعة الإفلاس، وأخيراً وليس آخراً التحذير من ثورة الجياع.

لم يثبت في التاريخ القديم أو الحديث أن الشعب المصري قام بثورة جياع في وقت الثورات أو الحروب أو الأزمات الاقتصادية التي مرت به حتى وإن عانى الفقر وأعوزته الحاجة، وعلى العكس من ذلك فإن مصر فيها خزائن الأرض بشهادة ربنا - عز وجل - لقول نبي الله يوسف - عليه السلام -: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) يوسف 55.

قال الجاحظ: " إن أهل مصر يستغنون عن كل بلد حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور، لغنيَ أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا ".

مصر مضرب الأمثال على مر العصور في نجدة وغوث غيرها من البلدان وقت المجاعات، ففي عام الرمادة أصاب المسلمين قحطٌ أكل الأخضر واليابس فكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسالة إلى واليه على مصر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - جاء فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم من عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص أما بعد أفتراني هالكاً ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه يا غوثاه ياغوثاه والسلام ".

عمرو بن العاص رد برسالة جاء فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، سلام عليك، أما بعد أتاك الغوث فلبيك لبيك، لقد أرسلت إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي"، فما كان من المصريون إلا أن جادوا بأموالهم، وبذلوا الطعام وحملوا الجمال وذهبت القافلة تزحف كالسيل تحمل الخير والرزق والعطاء، وحفظ التاريخ لمصر فضلها.

الإحصاءات لا تقدم صورة كاملة لفهم مشكلة الفقر

الاقتصاديون والسياسيون يتعاملون مع الفقر والجوع من خلال التقارير المحلية والعالمية التي تعتمد في فهمها للظواهر الاقتصادية والاجتماعية على إحصاءات ومعايير رقمية محددة وجامدة، ووفقاً لمعايير البنك الدولي والأمم المتحدة فإن الفقير هو الذي يملك أقل من 1، 25 دولار يومياً، والمؤشر العالمي للجوع يستخدم ثلاث معايير رقمية هي: نقص التغذية وتعني عدم الحصول على عدد من السعرات الحرارية يومياً، وزيادة معدلات وفيات الأطفال، وبيانات نقص الوزن لدى الأطفال.

" الإحصاءات لا تعطي صورة كاملة تساعد على فهم مشكلة الفقر ولكن الأرقام المروعة تشير إلى وجود انتهاكات عامة واسعة النطاق للإعلان العالمي لحقوق الإنسان " هكذا يشير بيان اللجنة المعنية بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المقدم لمؤتمر الأمم المتحدة، البيان يعلن أن العالم لا يستطيع من خلال الإحصاءات والأرقام فهم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية بصورة كاملة، وبالتالي هو غير قادر على تقديم الحلول المناسبة لها.

توصيف الظواهر الاقتصادية والاجتماعية

الاقتصاد الإسلامي قادر على تقديم فهم وتوصيف للظواهر الاقتصادية والاجتماعية بصورة صحيحة ودقيقة، كما يمكنه تقديم أسباب هذه الظواهر، ووسائل الوقاية منها قبل حدوثها، ووسائل علاجها عند حدوثها، وذلك استناداً على المعلومات التي يستنبطها علماء الاقتصاد الإسلامي من نصوص الآيات التي أنزلها الله العليم الخبير في القرآن الكريم كما جاء في قوله - تعالى -: ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك 14، ومن نصوص الأحاديث النبوية التي نطق بها المعصوم - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنه الله - سبحانه وتعالى-: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) النجم 3، 4.

فبينما المؤسسات والهيئات العالمية تحدد أن الفقير هو من يملك أقل من 1، 25 دولار يومياً، فإن الاقتصاد الإسلامي يعتمد التوصيف الفقهي للفقير بأنه المحتاج الذي لا يجد كفايته ومن يعول من الحاجات الأصلية من مطعم وملبس ومسكن ووسيلة مواصلات وسائر ما لابد منه، والدخل الذي يجب أن يحصل عليه الفقير يقدر بما يحقق كفايتة ومن يعول من غير إسراف ولا تقتير، مع مراعاة الظروف التي يعيشها المجتمع على المستوى العام سعة وضيقاً، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: " تقدير العطاء مرتبط بالكفاية ".

متلازمة الجوع والخوف

ﺒﺎﺩﺉ ﺫﻱ ﺒﺩﺀ: ﺇﻥ ﺃﻋﻅﻡ ﻨﻌﻤﺘﻴﻥ ﻴﻤﺘﻥ ﺍﷲ ﺒﻬﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﻫما ﻨﻌﻤﺔ ﺍﻟﺸﺒﻊ ﻭﻨﻌﻤﺔ ﺍﻷﻤﻥ، ﻗﺎل ﺘﻌﺎﻟﻰ: ( لِإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ) سورة قريش.

ﻭﺃﻜﺒﺭ ﻋﻘﺎﺏ ﻴﻌﺎﻗﺏ ﺍﷲ ﺒﻪ ﻤﻥ ﺸﺭﺩﻭﺍ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﺠﻭﻉ والخوف، ﻗﺎل ﺘﻌﺎﻟﻰ: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) النحل 112.

الجوع والخوف من سنن الابتلاء والاختبار الإلهي للعباد ليعلم الله الصابرين من الجازعين كما قال - سبحانه وتعالى -: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة 155، ومن رحمته - سبحانه وتعالى- بعباده أنه ابتلاهم بشيء قليل؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله أو الجوع كله لهلكوا، ومن الابتلاء أيضاً النقص من الأموال والأنفس والثمرات، وهذا يشمل جميع النقص الناشئ عن أسباب سماوية كالسيول والزلازل والقحط وغيرها، أو عن أسباب بشرية من فعل الظلمة والمفسدين والمجرمين.

وسائل الوقاية والعلاج

أ- الأخذ بالأسباب الإيمانية: يجب تعليم الناس أن الرزق من الله، وأن الإنسان مكلف بالعمل وبذل الجهد لرفع الفقر عن نفسه ومن يعول، وأن الله يغني من يشاء ويفقر من يشاء بحكمته قال - تعالى-: ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) الإسراء 30.

وللوقاية من الفقر والجوع والخوف علمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة بالله من الفقر بقول: (( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر)) رواه النسائي، والاستعاذة بالله من الجوع بقول: (( اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)) رواه ابن ماجة، والاستعاذة بالله من الخوف بقول: (( اللهم آمن روعاتي)) رواه ابن ماجة.

وللعلاج من تلك الظواهر عند حدوثها أخبرنا الله - عز وجل - بالأسباب الإيمانية التي تدفع تلك المصائب، وهي التضرع إلى الله والعمل الصالح والاستغفار كما جاء في قوله - تعالى-: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام 43، وقوله - تعالى-: ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) نوح 10- 12.

ب- اتباع الوسائل الشرعية والعلمية والعملية: العليم الخبير الذي بين أهمية الأخذ بالأسباب الإيمانية للوقاية والعلاج من الفقر والجوع، قرر فرائض مالية للعلاج كالزكاة والوقف والتكافل والصدقات وكفالة الأيتام، وأنزل أحكام شرعية تحرم الربا والقمار والاحتكار والغش.

وبين أهمية الاعتماد على الأساليب العلمية في حل المشاكل الحياتية ففي قصة ذو القرنين قال - تعالى -: ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) الكهف 96 - 97، لقد وجه ذو القرنين الثروة البشرية إلى استخدام الموارد المادية بطريقة علمية وفق خطوات محددة لتنفيذ مشروع السد من سبائك الحديد والنحاس أو القطران.

ولأن التخطيط الاستراتيجي طويل الأجل والعمل الجاد لزيادة الإنتاج هو الأساس في حل المشاكل الاقتصادية ذكر الله لنا نموذجاً تطبيقياً في قصة سيدنا يوسف حيث قال - تعالى-: ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يوسف 47-49.

حقائق يجب إدراكها

الفساد السياسي، وسوء توزيع الثروة والدخل بين المواطنين، وسوء إدارة الموارد المتاحة على مدار ثلاثين عاماً مضت هي السبب في ارتفاع نسبة الفقر في مصر إلى 40%.

مصر التي حفظ التاريخ فضلها غير معرضة لثورة جياع بإذن الله؛ لأن الوازع الديني المرتفع لدى الشعب المصري يمنعه من الاعتداء على الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، وأن المصريين مسالمين بطبيعتهم ويتراحمون فيما بينهم بعيداً عن الدولة، ويكفي معرفة أن عدد الجمعيات الخيرية يصل إلى 22 ألف جمعية وفقاً لتصريحات مسئولين بوزارة التضامن الاجتماعي، وأن 15، 8 مليون أسرة مصرية تشارك في الأعمال الخيرية تقدر مساهماتهم المالية في العطاء الاجتماعي بنحو 18 مليار جنيه سنوياً، طبقاً لما جاء بتقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري.

كل دول العالم تتعرض لأزمات اقتصادية، والفقر ليس عيباً، ولكن العيب هو رفض المعارضة للحوار والتفاهم مع الرئيس المنتخب للوصول إلى خطة لحل المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها المواطنين بدعوى الاعتراض السياسي، ومن غير المقبول إعلاء المصالح الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن، ومن العار أن البعض يصور المصريين على أنهم شعب من الجياع لتحقيق مكاسب سياسية، ومن الخطأ والخطر تقديم تبرير سياسي أو اقتصادي لأعمال الإجرام والبلطجة والتخريب والنهب والحرق وإظهارها على أنها أعمال ثورية.

Created By M2000 Studio

Valid XHTML 1.0 Transitional