الزكاة عبادة من أجلِّ العبادات فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي عبادة من العبادات الأربع كالصلاة والصيام والحج، وقد قرنت بالصلاة في القرآن الكريم في اثنتين وثمانين آية، وجاء فرضها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
شرعها الله لحكم عظيمة فلها أهدافها الروحية والخلقية والإنسانية وقد حدد الشارع الحكيم نصابها ومقدارها فهي ثابتة لا تقبل التعديل أو التبديل بأي نظام آخر، فلا مجال للرأي في أصولها وأنصبتها ومقاديرها غير مسائل محدودة اختلفت أنظار الفقهاء تجاهها فكانت مجالاً لاجتهاد المجتهدين ومحلاً لدراسة المهتمين من أهل العلم الراسخين.
لماذا الاختلاف بين العلماء؟
الأحكام الشرعية منها الثابت ومنها المتغير، الأحكام الثابتة هي ما كانت بآيات ونصوص قطعية الدلالة من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وهي على حال واحدة لا تتغير عنها بتغير الأزمنة والأمكنة واجتهاد الأئمة مثل آية تحليل البيع وتحريم الربا: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا " البقرة 275 ، والعديد من الآيات التي تحدد أنصبة الميراث منها قوله تعالى: " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ " النساء 11، وآية تحريم الغش في الكيل والميزان " وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ " المطففين 1- 3، وحرمة دم ومال المسلم للحديث المرفوع: " ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم " موسوعة الحديث، إلى غيرها من آيات ونصوص وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وهذه الأحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كما أنها تتصف بالعموم لتطبق على جميع الناس من غير مشقة، فهي حاكمة لتصرفات الناس لا محكومة بهم.
والأحكام المتغيرة هي ما كانت بالأدلة الظنية في سندها أو في دلالتها، وهذه الأحكام قد تتغير وفقاً لاعتبار المصلحة بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس، وهي خاضعة لاجتهاد العلماء ولهم أن يختاروا من الأحكام ما يرونه مناسباً لمستجدات الحياة وفق مقاصد الشريعة المعتبرة من حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال.
القواعد الكلية للمال في الإسلام
في هذه الخواطر حول الزكاة لن يتم التطرق للاجتهادات الفقهية حيث أن محلها كتب الفقه، لكنها ستتطرق إلى الزكاة من ناحية كونها عبادة مالية لارتباط الزكاة في الأساس بامتلاك الإنسان المسلم للمال، لذا ستركز الخواطر على بيان القواعد الكلية للمال في الإسلام مع توضيح معنى لعبادة الزكاة غائب عن نفوس كثير من المسلمين.
القاعدة الأولى: المال مال الله ونحن مستخلفين فيه
ينفرد الإسلام بنظرة عقـائديـة للمال تنبني على كون الإنسان مستخلف من الله في الأرض كما جاء في قوله تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة 30، وقوله تعالى: " آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ " المطففين 7، قال بن كثير في التفسير أن الله تبارك وتعالى أمر بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وحث على الإنفاق " مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ " أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفكم فيه من المال في طاعته، وفيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك، فلعل وارثك أن يطيع اللّه فيه فيكون أسعد بما أنعم اللّه به عليك منك، أو يعصي اللّه فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان.
فعن عبد اللّه بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يقول: " ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت؟ أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " أخرجه مسلم.
والخلافة في الأرض تكون لعمارتها واستثمار خيراتها التي سخرها الله له لقوله تعالى: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " هود 61. والإنسان وهو يمارس دوره في عمارة الأرض عليه أن يأتمر بأوامر الله وينتهي عن نواهيه لقوله تعالى: " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ " الأعراف 54، وبذلك يتم الجمع بين الروح والمادة، فتنشأ خاصية الإحساس بالله تعالى ومراقبته في كل الأعمال، وذلك بهدف إقامة مجتمع المتقين لتحقيق الغاية الأسمى وهي العبودية لله لقوله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56.
القاعدة الثانية: ألا يكون المال دولة بين الأغنياء
إن تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس يحدث الشرور والآثام لأنه يقسم المجتمع إلى طبقات، ولا شئ أسوأ من تقسيم المجتمع إلى طبقة محدودة جداً من الأغنياء وطبقه كثيرة من الفقراء، فتتسلط هذه القلة وتتحكم في مصير الكثرة، وتسخرهم لخدمتها بغير حق، ويوجه القلة من أصحاب الأموال الاقتصاد كله وفقاً لمصالحهم ورغباتهم.
لذا حرص الإسلام على وضع قاعدة أساسية تحقق التوازن المالي في المجتمع والعدالة في توزيع الثروات والدخول قال تعالى: " كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ " الحشر 7. وهذه قاعدة أساسية في امتلاك الأموال، فالملكية الفردية معترف بها ولكنها محددة بهذه القاعدة، فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم ممنوعاً من التداول بين الفقراء هو وضع يخالف هذه القاعدة الإسلامية، كما يخالف هدفاً من أهداف النظام الاجتماعي في الإسلام.
وسائل تحقيق القواعد الكلية للمال في الإسلام
بعد أن بين الشارع الحكيم القواعد الكلية في المال حدد الوسائل أو الآليات التي تعمل على تحقيق تلك القواعد عن طريق إعادة توزيع الدخول والثروات بصورة تلقائية وانسيابية في المجتمع، بما لا يسمح بوجود احتكار للثروة ولا تبقي عليه إن وجد، من هذه الوسائل:
• الزكاة: رغم انخفاض نسبة الزكاة إلا أنها تعرض الثروات المكتنزة التي لا تساهم في الإنتاج والتداول للتآكل على مر السنين، مما يدفع أصحاب هذه الثروات إلى إخراجها من دائرة الاكتناز، والدفع بها في مجال الاستثمار الذي ينمي المجتمع ويقضي على البطالة، ويولد دخول للفقراء القادرين على العمل.
أما الفقراء الذين لا يقدرون على العمل لظروف خارجة عن إرادتهم فإن توزيع الزكاة بصورة مباشرة عليهم يوفر لهم حد الكفاية لهم ولمن يعولون، وهو ما يقضي على احتكار الثروة، ويسمح لجميع أفراد المجتمع بتداولها.
• الميراث: بينت الآيات القرآنية ضرورة توزيع ثروة المتوفى بمجرد وفاته، وفصلت كيفية هذا التوزيع وفق نسق محدد واضح يضمن عدم تضخم الثروة وإعادة توزيعها بانتظام، تحقيقاً لاستمرار تداول الثروات على مدى الأجيال.
بجانب هذه الوسائل الإلزامية الآمرة يوجد وسائل إلزامية تنهى عن الأعمال التي تعيق تدفق وتداول الأموال بين أفراد المجتمع، وتضر بعدالة توزيع الثروة والدخل منها:
• تحريم الربا: الربا من الأمور التي شدد القرآن على تحريمها، قال تعالى: " يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ " البقرة 276، والمحق يعني إبادة وذهاب الشئ كله حتى لا يرى منه أثر، فالربا كارثة اقتصادية تمزق المجتمع نفسياً ومالياً ولا تترك لأفراده إلا الحسرة والندامة.
يأتي التحريم المشدد للربا لمنع الاعتماد على توليد المال للمال، دون أي إضافة حقيقية إلى النشاط الاقتصادي الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو غيرها مما يحتاج إلى العمل، فتحدث البطالة وتزداد الفوارق بين طبقات المجتمع، ويتحول مجرى الثروة إلى جهة واحدة هي جهة الأغنياء، وهو ما يرفضه النظام الإسلامي.
والربا هو الكبيرة الوحيدة التي استحق فاعلها الحرب من الله ورسوله، قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ " البقرة 278، 279.
• تحريم الاكتناز: الكنز في الأصل هو المال المدفون تحت الأرض من الذهب والفضة، قال تعالى: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " التوبة 34، وفي التفسير أيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على ظهر الأرض غير مدفون. أما الاكتناز بالمعنى الاقتصادي فيقصد به تخلف أحد عناصر الموارد عن المساهمة في عمارة الأرض وبقاؤه في صورة عاطلة، مما يؤدي إلى حدوث اختناقات في حركة تداول الثروة يترتب عليها توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي.
• تحريم الاحتكار: الاحتكار هو حبس السلع والخدمات التي يحتاج إليها أفراد المجتمع لحين غلاء أسعارها، لتحقيق مكاسب كبيرة نتيجة الانتظار الزمني، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه لأنه يكون بفعله هذا قد برئ من الله، وقد برئ الله منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه " رواه أحمد. إذا كان هذا هو جزاء من يحتكر السلع بغرض تحقيق مكاسب أكبر، فما بال احتكار أصل الثروة وتركيزها في يد قلة من الأفراد مع افتقار باقي أفراد المجتمع إليها.
• تحريم الظلم والضرر: تؤكد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على تحريم كل العلاقات المالية التي تتسبب في إلحاق الظلم أو الضرر بالأفراد أو بالمجتمع، قال تعالى: " وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " البقرة 188، والأكل بالباطل أنواع قد يكون بطريق الغصب والنهب والقمار، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة وغير ذلك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار " رواه مالك. وهذا الحديث على قصره يبين السياج المحكم الذي بنته الشريعة لضمان مصالح الناس، فهو ينهى الإنسان عن التطلع إلى تحقيق مصالحه على حساب مصالح الآخرين، لأن ذلك التصرف يتسبب في إشاعة الأنانية وكثرة المنازعات، وهذا ما جاء الإسلام للقضاء عليه، ليكون التعامل بين البشر قائم على أساس من الأخوة الإنسانية والاحترام المتبادل.
وهكذا تشكل الوسائل الإلزامية الناهية في النظام المالي الإسلامي آليات لتنقية وإزالة كل ما يعيق حركة تداول الثروة، لتهيئة المناخ المالي والاجتماعي الملائم لتطبيق أدوات العمل الآمرة، لتمارس دورها في إعادة توزيع الثروة والدخل في المجتمع. ولم يقتصر الإسلام على الوسائل الإلزامية لإعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء فحسب، وإنما رغب الأغنياء في وسائل تطوعية تحقق نفس الهدف، وتشمل هذه الوسائل الصدقات، والنذور، والوقف.
الهدي القرآني في مسألة الرزق
قال تعالى: " وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ " النحل 71. جاء في التفاسير أن الله - لا غيره - رزق الناس جميعا، وفضل بعضهم على بعض في الرزق، ولا يسعهم إلا الإقرار بذلك له. فالرزق حاصل لجميع الخلق، وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم، ولا على استحقاقهم، فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلا وفهما مقترا عليه في الرزق، وبضده ترى أجهل الناس وأقلهم تدبيرا موسعا عليه في الرزق، وكلا الرجلين قد حصل به ما حصل قهرا عليه، فالمقتر عليه لا يدري أسباب التقتير، والموسع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه، وذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغلة في الخفاء حتى يظن أن أسباب الأمرين مفقودة، وما هي بمفقودة، ولكنها غير محاط بها.
والمعنى أن الله - عز وجل - جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق غيركم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " رواه البخاري ومسلم. وعلى هذا القول فقوله تعالى: " فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ "، لوم لهم، وتقريع على ذلك.
وعن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: " واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق، بل يبتلي به كلا، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله " رواه ابن أبي حاتم.
معنى لعبادة الزكاة غائب عن نفوس المسلمين
في ضوء القواعد الكلية للمال في الإسلام، ومن وحي الهدي القرآني في مسألة الرزق، فأنه بجانب المعنى الموجود في كتب الفقه من أن الزكاة فريضة يتقرب بأدائها المسلم إلى الله طلباً للطهارة والنماء والبركة، هناك معنى آخر للزكاة غائب عن نفوس المسلمين وهو أن الله الخالق المالك الرزاق كلف بعض خلقه الذين فضلهم على غيرهم في الرزق وهم " الأغنياء " بتوصيل 2,5% من ماله لبعض خلقه الذين قدر الله عليهم رزقهم وهم إخوانهم " الفقراء " مقابل أجرة توصيل 97,5%.
أتصور أن هذا المعنى إذا ترسخ في نفوس المسلمين سيقضي على شحها ويجعلها مهيأةً للعطاء، لأن الأغنياء سيدركون أن ما يخرجوه من زكاة لإخوانهم الفقراء ليس من أموالهم وإنما من مال الله الذي جعلهم مستخلفين فيه، وأن ما يقومون بإيصاله للفقراء هو رزق الله للفقراء أجراه الله على أيديهم مقابل أجرة توصيل لا يمكن تصورها لأنها عطاء ممن له ملك السماوات والأرض، قال تعالى: " وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ " البقرة 212. قال ابن كثير: الله يزرق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة.
كما جاء في الحديث القدسي: " يا ابن آدم أَنْفِق أُنْفِق عليك " رواه البخاري ومسلم. والمعنى: أنفق في وجوه الخير ما أعطيك أعوضك عما أنفقت وأخلف عليك وأزيد، فإن إنفاقك إنفاق من ملكه محدود ويخشى النفاد وفي طبعه شح وقبض، أما إنفاق الله المالك المطلق الذي لا تنفذ خزائنه الكريم المعطي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَنْفِقْ بِلالاً، وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالاً " أخرجه أحمد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا " متفق عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخيرمن الريح المرسلة، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
ومن حكمة الله تعالى أنه تدرج معنا، فبدأ بقوله تعالى: " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " الشورى 49، ثم ملكنا وقال تعالى: " وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم " المنافقون 10، ثم رغبنا في النفقة فقال تعالى: " وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " سبأ 39، ثم بلغ من كرمه سبحانه أن قال تعالى: " مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً " البقرة 245، فالله الذي ملكك وأعطاك يستقرضك!. فالزكاة بهذا المعنى مغنم وليست مغرم، وزيادة وليست نقصان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقص مال عبد من صدقة " رواه الترمذي.
هذه خواطر عن الزكاة العبادة المالية التي تعمل على إعادة توزيع الثروة والدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن للأسف يتصور الكثير منا أنها تنقص من ماله فيدفعه ذلك إلى البحث في أقوال العلماء عله يجد في ثنايا فتواهم ما يعفيه من أدائها، وإذا أخرجها أراد بذلك إسقاط الفريضة عن نفسه، وما هكذا تكون المعاملة مع الله الرزاق الجواد الكريم!، فهذه العبادة المالية يجب أن تؤدى عن طيب نفس، وأن يكون ما أخرجت من مال أحب إليك مما أمسكت، وأن تحزن إذا لم تجد ما تزكي به لقوله تعالى: " وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ " التوبة 92.